بسم الله الرحمن الرحيم
نحمد الله تبارك وتعالى أجزل الحمد ونثني عليه أطيب
الثناء ونصلي ونسلم على سيدنا ومولانا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين وعلى آله
الطيبين وأصحابه الراشدين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد، فإن هذا بحيث
يحتوي على بعض أمور الذي يتعلق بالأدلة المختلف فيها. وقد أخذت باب سد الذرائع، لما فيه من اهتمام
العلماء بهذا الباب ولاشتباه الخلاف بينهم فيه. عسى أن يكون هذا الجهد القصير وسيلة
للفهم بهذا الباب. وأسأل الله تعالى أن يوفقني كل الأمور،آمين. وقد قسمت هذا البحث
على عناوين صغرى كالتالي:
المبحث
الأول:
أولا:
تعريــفه
السد أي حسم المادة و الذرائع([1])
هي الوسائل؛ والذريعة هي الوسيلة والطريق إلى الشيء، سواء أكان هذا الشيء مفسدة أو
مصلحة، قولا أو فعلا. ولكن قدغلب إطلاق اسم ((ذريعة)) على الوسائل المفضية إلى
المفاسد. فلذلك، إذا قيل : هذا من باب سد الذرائع، فمعنى ذلك أنه من باب منع
الوسائل المؤدية إلى المفاسد.
قال القرافي: إنه ((
حسم مادة وسائل الفساد، دفعا لها، متى كان الفعل السالم عن المفسدة وسيلة إلى
المفسدة))([2]).
فكما أن هناك سد للذرائع لمنع الوصول إلى المفسدة، لأن
الفساد ممنوع شرعا، وما يؤدي إلى الحرام فهو حرام. ولكن، هناك ذرائع قد تفضي إلى
الطاعات والقربات، وهي حينئذ مطلوبة وليست بممنوعة. وعلى هذا، فقد أجمعت الأمة على
أنها ثلاثة أقسام بحسب موقفهم سدًّا وفتْحًا:
أحدها:
معتبر إجماعا كحفر الآبار في طُرُق المسلمين مع العلم أوالظن بوقوعهم فيها، ومنع شهاة
الآباء للأبناء وبالعكس.
وثانيها:
ملغى إجماعا كزراعة العنب، فإنه لا يُمْنع خشية الخمر.
وثالثها:
مختلف فيه، هل يسد أم لا؟ وهي الذي نحن بصدده الآن كبيوع الآجال التي منعها مالك
وأحمد رحمهما الله، للتهمة على أخذ الكثير بالقليل، أما الشافعي، فأجازها؛ لأنه
نظر إلى صورة البيع الظاهر. فلذك، عرّفها سادة المالكية بأنّ الذريعة هي مسألة
التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل المحظور([4]).
فكما عرفنا، أنّ موارد الأحكام ينقسم
على قسمين ،أولهما: المقاصد: وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها، وثانيهما
الوسائل: وهي الطرق المُفْضية إليها. والأخذ بدليل سد الذرائع راجع إلى الأخذ بدليل
المصلحة. وحكمها كحكم ما أفْضَتْ إليه من تحريمٍ أو تحليلٍ، غير أنها أخفض رتبةً من
المقاصد في حكمها. فالوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وإلى أقبح المقاصد أقبح
الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة.
ثانيا:
مذاهـب العلمـاء فيه
المالكية والحنابلة يقولون بالمنع أي سد الذرائع. وقد
بالغوا فيه حتى يقال أن ربع مذهبهم مبني على مبدأ سد الذرائع. ووجهة نظرهم أن سد
الذرائع أصل من أصول التشريع قائما بذاته، ودليل معتبر من أدلة الأحكام تبنى عليه
الأحكام، فما دام الفعل ذريعة إلى المفسدة الراجحة، والشريعة جاءت بمنع الفساد وسد
طرقه ومنافذه، فلا بد من منع هذا الفعل. فنظروا إلى مقاصد الأفعال وغاياتها
ومآلاتها فقالوا بالمنع ولم يعتبروا إباحته. ومن أمثلة عمل مالك بسد الذرائع أنه أفتى
لمن رأى هلال شوال وحده ألا يفطر وتبعه الحنابلة؛ وذلك، لئلا يكون ذريعة إلى إفطار
الفساق محتجين بما احتج به([5]).
وغيرهم كالحنفية والشافعية يقولون بعدم منعها. ووجهة
نظرهم أن هذه الأفعال مباحة فلا تصير ممنوعة لاحتمال إفضائها إلى المفسدة. وقد
نظروا إلى إباحته بغض النظر عن نتيجته. فقالوا بعدم منعه ترجيحا للإذن الشرعي
العام الوارد فيه على الضرر المحتمل المتأتي منه، وإن كان في الواقع أنّ الحنفية
والشافعية قد أخذوا به في بعض الحالات وأنكرا العمل به في حالات أخرى.
ثالثا:
حجيته عند القائلين به
سد الذرائع حجة يُعمل به، وُيستدل به على إثبات بعض الأحكام
الشرعية، أو نفيها؛وذلك لأمرين:
أولا:القرآن الكريم
قال تعالى: ﭽ ﮬ
ﮭ ﮮ ﮯ
ﮰ ﮱ ﯓ
ﯔ ﯕ ﯖ
ﯗ ﯘﯙ ﭼ [ الأنعام:108]. فالله سبحانه هنا قد حرَّم سبَّ الأصنام التي يعبدها المشركون،
لكون هذا السب ذريعة إلى أن يسبوا الله تعالى، فترك مسبته تعالى مصلحة أرجح من مصلحة
سبِّنا لأصنامهم. فلذلك، أمرنا بترك سبِّ أصنامهم؛لأنه يؤدي إلى سبًّا الله تعالى،
وهذا هو سد الذرائع.
ثانيا:السنة النبوية
عن
عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أكبر
الكبائر أن يلعن الرجل والديه» قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: «يسب
الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسب أمه»([6]).
نهي عن شتم الرجل أبوي غيره حتى لا يكون ذريعة إلى سب أبويه نفسه؛ لأن سب الغير
يؤدي أليه.
المبحث
الثاني: أثره في أحكام الفقهية، ممثلا بالمسائل الفقهية الواردة في كتبهم
1-
قتل الجماعة بالواحد
اتفق جمهور الأئمة على أن الجماعة تقتل بالواحد سدّا
للذرائع. وهم الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والثوري وأبو ثور وغيرهم من
فقهاء الأمصار. وبه قال عمر حتى روي أنه قال: (( لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعا ))([7]). خالف الجمهورَ داود وأهل الظاهري،وهم يقولون بأن
الجماعة لا تقتل بالواحد. فقد تمسك أهل الظاهري بقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن
النفس بالنفس والعين بالعين) [المائدة: 45] .
وعمدة الجمهور، النظر إلى المصلحة، لأن القتل إنما شرع