بسم الله الرحمن الرحيم
أثار الفقهاء في المذهب
الحنفي بحثا حول القرآن
في مسألة : هل القرآن مجموع
النظم والمعنى أم هو المعنى فقط ؟
أ.
آراء العلماء في المذهب عن القرآن
يرى الجمهور بأن القرآن هو النظم والمعنى. وقولهم النظم،
لأن القرآن عبارة عن الكلمات المترتبة بترتيب الخاص، فلو غير ذلك الترتيب بتقديم
وتأخير ما بقي القرآن قرآنا.
لكنه لم يوجد نص الإمام نفسه الذي صرح به رأي الجمهور،
بل يوجد هناك فرع يؤدي تخريجه إلى احتمال وجود رأي آخر الذي يوجهه إلى أن القرآن
هو المعنى فقظ . فلذلك نريد أن نعرف رأي أبي حنيفة في هذه المسألة أهو يرى أن
القرآن هوالمعنى فقط أم هو النظم والمعنى كما يرى الجمهور؟ ولماذا يأتي هذا
الاحتمال ؟
ابتداءً، قبل أن نعرف رأي الإمام في القرآن، لابد أن
نبحث ذلك الفرع الذي حكمه الإمام في المسألة، وسنذكره مرتبا كالتالي:
1.
قول الإمام أبي حنيفة فيمن إذا قرأ في صلاته بالفارسية
ذكر الإمام السرخسي في شرح المبسوط حيث قال : "إذا
قرأ في صلاته بالفارسية جاز عند أبي حنيفة رحمه الله ويكره، وعندهما أي أبو يوسف
ومحمد بن حسن لا يجوز إذا كان يحسن العربية وإذا كان لا يحسنها يجوز وعند الشافعي
رضي الله عنه لا تجوز القراءة بالفارسية بحال، ولكنه إن كان لا يحسن العربية وهو
أمي يصلي بغير قراءة[1]".
ومعنى هذه العبارة أن قراءة القرآن في الصلاة بالفارسية تجزئ سواء أكان عاجزا عن
القراءة العربية أم غير عاجز لكنه يكره
عند عدم العجز.
لكن قيد العلماء بالاتفاق ذلك الجواز بأن تكون الآية غير
مؤولة، ولا محتملة لعدة معان، فإن كانت كذلك لم تجزئ قراءتها عند الكل؛ لأن ذلك
تفسيرللقرآن وليس بمعنى القرآن المنعين، فلا يجزئ في الصلاة. وقد قال الكاساني في
البدائع :"ثم عند أبي حنفية رحمه الله تعالى إنما يجوز إذا قرأ بالفارسية إذا
كان يتيقن بأنه معنى العربية، فأما إذا صلى بتفسير القرآن لايجوز؛ لأنه غير مقطوع
به"[2].
2.
قول الإمام أبي حنيفة فيما إذا تلا السجدة بالفارسية.
بناء
على جواز القراءة بالفارسية، فيلزم لمن تلا السجدة بالعربية أو بالفارسية أن يسجد
سجدة التلاوة وكذا لمن يسمعها كما أنه يلزم إذا تلاها بالعربية . قال علاء الدين
الكاساني في كتابه "بدائع الصنائع" :" ... بين ما إذا تلا السجدة
بالعربية أو بالفارسية في قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى حتى قال أبوحنيفة : يلزمه
السجود في الحالين وإن سمعها ممن يقرأ بالفارسية فكذلك عند أبي حنيفة بناء على
أصله أن القراءة بالفارسية جائزة"[3].
3.
حكم قراءة القرآن من الجنب والحائض والنفساء بغير العربية عند
الحنفية ومس المصحف المترجم إلى غير العبية.
وقد خرج بعض العلماء على رأي أبي حنيفة هذا في جواز
القراءة بغير العربية حرمة قراءة القرآن من الجنب والحائض والنفساء بغير العربية.
وكذلك حكم مس المصحف المترجم إلى غير العربية من غير المتوضىء أنه يحرم. ولكن الذي
اختاره شيخ الإسلام جواهر زاده، ومعه جمع من المشايخ، واستحسنه الأكثرون هو أن
جواز القراءة بغير العربية رخصة خاصة بالصلاة لاتعدوها عند أبي حنيفة رضي الله
عنه. وعلى ذلك، لا يعطى المعنى حكم القرآن في حق المس والقراءة ممن لاتجوز منه
القراءة. فقد نص الشيخ بقوله "في حق جواز الصلوة خاصة"[4] ، معناه أنه لايلزم عليه
وجوب سجدة التلاوة بالقراءة بالفارسية وحرمة مس مصحف كتب بالفارسية على غير
المتطهر وحرمة القراءة بالفارسية على الجنب والحائض.
استدلال أبي حنيفة في المسألة
استدل أبو حنيفة رحمه الله بما روى أن الفارس كتبوا إلى
سلمان رضي الله عنه أن يكتب لهم الفاتحة بالفارسية فكانوا يقرؤون ذلك في الصلاة
حتى لانت ألسنتهم للعربية. فالواجب عليه
قراءة المعجزة. والإعجاز في المعنى. فإن القرآن حجة على الناس كافة وعجز الفرس عن
الإتيان بمثله إنما يظهر بلسانهم. والقرآن كلام الله تعالى غير مخلوق ولا محدث
واللغات كلها محدثة، فعرفنا أنه لا يجوز أن يقال أنه قرآن بلسان مخصوص كيف وقد قال
تعالى : ( وأنه لفي زبر الأولين ) وقد كان بلسانهم. ولو آمن بالفارسية كان مؤمنا[5] . يقول الكاساني في كتابه "بدائع الصنائع في
ترتيب الشرائع" بعد أن يذكر قول الإمام الشافعي القائل بأنه لم يجز القراءة
في الصلاة بغير العربية مطلقا : "وأبو حنيفة يقول إن الواجب في الصلاة قراءة
القرآن من حيث هو لفظ دال على كلام الله تعالى الذي هو صفة قائمة به لما يتضمن من
العبر والمواعظ والترغيب والترهيب والثناء والتعظيم، لا من حيث هو لفظ عربي، ومعنى
الدلالة عليه لايختلف بين لفظ ولفظ، قال تعالى : (وإنه لفي زبر الأولين)[6]".
ج. رواية رجوع الإمام عن القول في
المسألة
نص ابن ملك شارح المنار بقوله : "والأصح أنه رجع عن
هذا القول كما روي نوح بن مريم هكذا[7]" لأنه يلزم منه أحد
الأمرين إما بطلان تعريف القرآن؛ لأن الفارسية غير مكتوبة في المصاحف أو جواز
الصلاة بدون القرأن لأنه اسم للنظم والمعنى. وكذلك قال فخر الإسلام البزدوي في كشف
الأسرار ما نصه: "وهو الصحيح من مذهب أبي حنيفة عندنا أي المختار عندي أنّ
مذهبه مثل مذهب العامة في أنه اسم للنظم والمعنى جميعا"[8]. كما قال ابن نجيم أيضا
:"فالأصح رجوع الإمام عنه إلى قولهما إنه لا تجوز القراءة بغير العربي فيها
للقادر"[9] .
د. مسلك البزدوي ومسلك السرخسي
فكلام السرخسي صريح يؤدي في نتائجه إلى الحكم لا محالة
بأن رأى أبي حنيفة أن القرآن معنى فقط، وليس اللفظ جزءا من مدلوله؛ لأن الألفاظ
محدثة والمعاني قديمة والقرآن قديم فالقرآن هو المعاني، ولأن الإعجاز في المعنى
ولأن بعض القرآن كان في زبر الأولين، ولا شك أن الذي كان هو المعنى لا اللفظ،
فالمعنى هو القرآن وعلى هذا يكون السرخسي ممن يحكمون بأن أبا حنيفة يرى أن القرآن
هو المعنى فقط، وأنه ليس مجموع النظم والمعنى.
ومسلك فخر الإسلام البزدوي أنه قال أن رأي أبي حنيفة في
القرآن هو اسم للنظم والمعنى جميعا. ويؤيد ذلك رد الشيخ على العلماء الذين