الحمد لله الذي أمرنا بإقام الصلاة وإتاء الزكاة رحمة
بنا، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين وأصحابه
الأخيار ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد،لقد فرضت الزكاة في السنة
الثانية للهجرة.
ومما يدل على ذلك، حديث قيس بن سعد قال : « أمرنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بصدقة الفطرقبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة لم
يأمرنا ولم ينهنا ونحن نفعله» ([1]).
وقد كان فرضها بعد فرض الصيام،بدليل حديث قيس بن سعد
المذكور، مما يعني أن فرض صدقة الفطر كان قبل الزكاة، فبالتالي فرضت الزكاة بعد
فرض صيام رمضان([2]).
ومما يدل على أن الإمام يرسل الولاة والجباة إلى أصحاب
الأموال لقبض صدقاتهم، ما ورد في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أرسل معاذا حين أرسله إلى اليمن وحثه على جمع الزكاة بقوله « إنك تقدم على أهل
كتاب فليكن أول ما تدعوهم إلى عبادة الله تعالى، فإذا عرفوا الله تعالى فأخبرهم أن
الله تعالى فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنائهم وترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك
فخذ منهم وتوق كرائم أموالهم واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب »
([3]).
وقوله صلى الله عليه وسلم : «إذا أتاكم المصدق فليصدر عنكم وهو عنكم راض»([4]).
كما كتب صلى الله عليه وسلم إلى زرعة بن يزن بذلك حين
قال :
« إذا أتاكم رسلي فإني آمركم بهم خيرا : معاذ بن جبل،
وعبد الله بن رواحة، ومالك بن عبادة، وعتبة بن نيار ومالك بن مرارة، وأصحابهم،
فاجمعوا ما كان عندكم من الصدقة والجزية فأبلغوها رسلي، فإن أميرهم معاذ بن جبل »
([5])
.
كما بعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى خيبر ليخرص
النخل وهو أحد الموارد المالية سوى
الزكاة.
عن عمير : «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بخرص
النخل حين طاب ثمرهم». وعن عائشة: أنها قالت – وهي تذكر شأن خيبر- فقالت : « كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث عبد الله بن رواحة إلى اليهود، فيخرص الثمر،
حين يطيب، قبل أن يؤكل. قالت: ثم يخبر يهود، أيأخذونه أم يدفعنه إليهم بذلك الخرص؟»([6]).
كما نصب عقبة بن
عامر الجهني ساعيا على الزكاة واستأذنه في الأكل منها، فأذن له.
عن يزيد عمن سمع عقبة بن عامر أنه يقول: « بعثني رسول
الله صلى الله عليه وسلم ساعيا فاستأذنته أن نأكل من الصدقة، فأذن لنا» ([7]).
***
أما في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد كانت الزكاة
محور الردة وأصلها. فقد امتنعت القبائل عن إعطاء الزكاة لخليفة الرسول صلى الله
عليه وسلم اعتقادا أن دفعها خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم. ولذا كانت وقفة
الخليف أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لوضع أمر هذه الفريضة في نصابه، وأهمية دفعها
إلى ولي الأمر حتى لو أدى ذلك إلى قتالهم. وقال أبو بكر رضي الله عنه قولته
المشهورة :
« والله لأقاتلن
من فرق بين الصلاة والزكاة، أليس قد قال إلا بحقها فإن الزكاة حق المال والله لو
منعوني عناقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتاتلتهم على منعه»([8]).
وبعد أن فرغ من حرب المرتدين، نشط أبو بكر الصديق رضي
الله عنه في إرسال المصدقين والسعاة لجمع الزكاة، فقد أرسل أنس بن مالك لما
استخلف، بكتاب يحث أهل البحرين على إخراجها.
***
ولما تولى عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- الخلافة، اجتهد
في إرسال المصدقين وجامعي الزكاة. فقد استعمل سفيان بن عبد الله وبعث أبا حثمة
خارصا ومحمد بن مسلمة مصدقا ([9])
.
عن مالك -عن سفيان بن عبد الله- أن عمر بن الخطاب بعثه مصدقا
فكان يعد على الناس بالسخل. فقالوا: أتعد علينا بالسخل؟ ولا تأخذ منه شيئا فلما قدم
على عمر بن الخطاب ذكر له ذلك. فقال عمر: «نعم تعد عليهم بالسخلة، يحملها الراعي، ولا
تأخذها ولا تأخذ الأكولة، ولا الربى ولا الماخض ولا فحل الغنم، وتأخذ الجذعة والثنية
وذلك عدل بين غذاء الغنم وخياره»([10]).
وقد نتج عن الفتوحات الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة،
بروز أنواع جديدة من الأموال لم تكن غالبة في أرض الجزيرة العربية، مما استدعي
الحاجة إلى إعمال الفكر والاجتهاد فيها، وقد استمر جمع الزكاة وإرسال المصدقين في
عهد الخلفاء عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وإن ترك عثمان بن عفان
إخراج زكاة الأموال الباطنة إلى أربابها رفعا للمشقة عنهم وتوفيرا لنفقات جمعها.
وهناك رآيا أخر بأن عثمان بن عفان رضي الله عنه لم يكن في ذلك إلا متابعا للرسول
صلى الله عليه وسلم وخليفيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، والذين كانوا يجمعون
الأموال الظاهرة والماشية ولم يكونوا يكرهون الناس على دفعها من الأموال الباطنة ([11]).
***
أما في العهد الأموي، فقد تضاءلت أهمية الزكاة
وإيراداتها مقابل إيرادات الخراج الضخمة وغيرها من الإيرادات الأخرى وإن استمر
الأمويون بفصل عميل ة جمع الزكاة عن عميلة جمع الخراج. كما استمر الخلفاء الأمويون
في جمع الزكاة من الأموال الظاهرة فقط. كما أدى بذخ الخلفاء الأموين وكثرة صرفهم من
بيت مال المسلمين، إلى شكوك بعض الناس حول صحة دفع الزكاة إليهم. ومن ذلك كثرة
سؤال الصحابة كابن عمر والتابعين حول ذلك ([12]).
ومنها عن أنس بن سيرين قال:« كنت عند ابن عمر، فقال رجل
أندفع صدقات أموالنا إلى عمالنا؟ فقال : نعم. فقال إن عمالنا كفار. قال : وكان زياد
بن أبيه يستعمل الكفار. فقال ابن عمر : «لا تدفعوا صدقاتكم إلى الكفار» ([13]).
كما أن ابن عمر قال : ادفعوا الزكاة إلى الأمراء ، فقال
له رجل : إنهم لا يضعونها مواضعها، فقال: «وإن». وقد قيل عن ابن عمر، إنه رجع عن
قوله في دفع الزكاة إلى السلطان –إذا كان يضعها في غير مواضعها- وقال : «ضعوها في
مواضعها» ([14]).
***
فلما جاء عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، اهتم بجمع
الزكاة وإنفاقها على منهجها الشرعي الصحيح. وقد ساعدت وفرة الأموال وحسن التوزيع
على إغناء الفقراء من الزكاة. ويؤيد ذلك ما ذكر عن يحيى بن سعيد قال: «بعثني عمر
بن عبد العزيز –رضي الله عنه- على صدقات أفريقيا فاقتضيتها وطلبت فقراء نعطيعا لهم
فلم نجد بها فقيرا ولم نجد من يأخذها مني، فقد أغنى عمر عبد العزيز الناس، فأشتريت
رقابا فأعتقتها وولاؤهم للمسلمين». وكانت ولايته سنتان ونصف وذلك ثلاثون شهرا([15]).
وكان من رأيه أن ليس في العسل زكاة. وذلك مما ورد عن نافع
حيث قال: بعثني عمر بن عبد العزيز إلى اليمن، فأردت أن آخذ من العسل قال: فقال لي المغيرة
بن حكيم: ليس فيه شيء، فكتبت فيه إلى عمر بن عبد العزيز قال: «صدق، وهو عدل رضي، وليس
فيه شيء»([16]).
-والله أعلم
بالصواب-
***
[3] - البخاري،صحيح البخاري،
رقم [1458]، كتاب: الزكاة، باب: لا تؤخذ كرائم أموال الناس في الصدقة، ج2 ص119.